(مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر،الآفاق للطباعة والنشر، صنعاء، 2007 ، ص 248 – 249
) .
وما إن انتهـت الحــرب بين شطـري اليمن عام 1994 وتحقــق فيهـا النصـر للطـرف الشمــالي حتى تنفسـت قـوى الحكم التقليـدية في الشمال الصعـداء وأيقنـت أنهـا أحـرزت أخيـرا انتصـارها التاريخي على ذلك البعـبع الذي كـان يتـبدّى لهـا من عـدن مهـددا كيانهـا. غيـر أن حركة الإحتجـاجـات الشعبية الواسعة التي انتشـرت في جنـوب اليمن منـذ مطلـع العـام المنصرم قـد أصابـت تلك القوى في مقتـل
.
مما لاشـك فيـه أن حركـة الإحتجـاجـات تلك منشــأها المباشـرالظلـم الفاحـش الـذي لحـق بالجنوبيين على يد إخـوتهم من الشماليين ، وماشاهـدوه من نهـب لثروات شطـرهم برا وبحـرا وثروات معـدنية، بالإضافـة إلى إحالـة موظفي أجهـزة النظام الجنوبي السـابق المدنية والعسكرية والأمنية إلى التقـاعـد وحرمانهـم من حقوقهم
. لكـن الدافـع الأعمـق غيـر المباشـر للحركة الإحتجاجية الجنـوبيـة هو هـذا الصراع بين الثقـافتيـن فثقـافـة القـوة المنفلتـة التي لايقيـدها قـانـون ، ولايحـد منهـا نظام ، التي جلبهـا الشماليـون إلى عــدن تصطـدم بالموروث الثقـافي الحضـاري للمـدينة ، وهي لاتمثـل نمـوذجـا متقـدما عما كـان سـائدا في المـدينـة بل على العكـس من ذلك فإن من شـأن تلك الثقـافـة أن تعــود بالجنـوب في حال استمرار فرضهـا قرنـا ونصـف قـرن من الزمـان إلى الـوراء . إن هـذا هـو مايشكـل التحـدي الأسـاسـي والمعضلـة الرئيسيـة والعقبـة الكــأداء أمام السيطـرة الشمـالية على الجنـوب . ومـا عمليات النهـب والسـلب التي تـدور رحاهـا في الجنـوب على قـدم وسـاق ، إلا محصلـة لهـذه الثقـافـة المتخلفـة عن روح العصـر
.
وحسبنـا أن نـرى أن سيـاسـات الإستقـواء وعمليـات النهـب والسطـو على الأراضـي والممتلكـات العـامة والخاصـة من جـانب ذوي النفـوذ ليسـت حصـرا على الجنـوب ولكنهـا تشمـل محـافظـات شمـالية أيضـا ، لكن محافظـات الشمـال لم تمتلـك ثقـافـة أو تتمتـع بفيـم اجتمـاعيـة أخـرى في العهـد الملكي أو الجمهـوري غيـرماهو قـائـم وسائـد
. ولهـذا فإن مقـاومـة تلك السياسات والممارسات عند الشماليين تتركـز بصورة رئيسـية في أوسـاط المثقفـين والمتعلميـن الذين وعـوا وأدركـوا حقـوقهم كمواطنين ويناضلـون من أجـل نيلهـا والظفـربهـا بينمـا الغـالبيـة العظمـى من المواطنـين لايعلمـون عن تلـك الحقـوق شيـئا
. أما بالنسـبة للجنـوب فإن نظـم الحيـاة العصـرية كانت واقعـا معاشـا تمتعـوا به منـذ حـلّ الإستعمـار البريطـاني في بلادهـم ، وسـاروا عليـه جيـلا بعـد جيـل
.
وهكـذا فإن عـدن وبعـد ثلاثـة عشـر عاما من حرب 1994 عـادت لتلعـب دورها المؤثـر في تاريـخ اليمـن . فكما كـانت هـذه المـدينـة مصـدرا ثقافيـا ألهـم أحـرار الشمال إسقـاط النظام الملكي الإمامي ، فإنهـا بما غرستـه من القيـم الحضـاريـة في أبنـاء الجنـوب قـد دفعتهـم إلى مقـاومـة سيـاسـات الإستقـواء والفسـاد التي جلبهـا نظـام الشمـال وعمـل على نشـرها طـوال السنوات السـابقة . وقـد أصابت تلك الإجتحـاجـات الحكـام الشمـاليين بحـالـة من الإهتـزازالشـديد أفقـدتـهم القـدرة على حفظ التـوازن، وتجلـى ذلك في ردود الفعـل الحكـوميـة التي تراوحـت مابيـن التجـاهـل أولا ثم اللجـوء للعنـف من جهـة واتخـاذ قرارات إداريـة هـدفهـا إرضـاء شـرائح جنـوبيـة من جهـة أخـرى ، ولكـن يبـدو أن سيـاسـات الحكـومـة لاحتـواء هـذه الإحتجاجـات لم تـؤت أكلهـا ، بل على العكـس فإن ماصار يعـرف بالقضيـة الجنـوبية تجاوزت في غضـون عـام واحـد نطافها الجنـوبي وأخـذت تفرض نفسها بشــدة متعاظمـة على خارطة البلـد وتشكـل ملامـح الوضـع السيـاسي الجــديـد في اليمـن . لقـد حرّكـت احتجـاجـات الجنـوبيـين الميـاه الآسنـة في الشمـال فانطلقـت الإجتجـاجات والإعتصـامـات في شتـى المحافظـات مطالبـة بتغيـيرات جـديـة في سيـاسـات ونظـم الحكـم
. وهكـذا أصبـح النظـام في صنعـاء يـدرك يومـا بعـد يـوم أن الوحـدة مع الجنـوب لم تكـن بالنزهـة الممتعـة ، وأن ثقـافـة الحكـم المـدني الضاربة بجـذورها عميقـا في حيـاة عـدن وأبناء الجنـوب ليـس من السهـل تجاوزهـا خاصـة وقـد تملكـت نفـوس وعقـول الجماهيـر المتحمسـة والمستعـدة للتضحيـة من أجلهـا حرصـا على حيـاة كريمـة ومستقــبل مشــرق لآجيالهـا القـادمـة . وها قـد بات النظـام يرى في ثقـافـة الحكـم تلك شــركـا حقيقــيا وقـع فيـه وعامـل تهديد فعلـي له . إن النظـام أضحـى غيـر قـادر على الإستمـرار في حكـم الجنـوب بالطـريقـة التي يحكـم بهـا ، وأن من شــأن الإصـرارعلى ذلك فقـدان الجنـوب بما يحتـويـه من خيـرات تغـذي شـريان حيـاة النظـام ، كمـا أنـه غيـر قـادر على فـك عـرى الوحـدة والعـودة إلى ماقبـل 22 مايـو 1990 . وكلمـا اشتـدت حركـة الإحتجاجات الشعبية الجنوبية كلما رجـع صداها من المحافظـات الشمـاليـة وازداد عجـزالحـكم عن فـرض الأمـن وبســط النظام وانتشرت الفـوضى وأخذ القلـق يتضاعـف لدى المجتمـع الدولي من انعـدام الأمـن والإستقـرار في هـذه المنطقـة الحيـويـة والمهمـة للأمن العالمـي مايجعلـه ملـزما بفتـح ملفـات هـذا البلـد ومسـاعدة شعبـه على تحقيـق تطلعـاته في حيـاة مدنيـة عصـريـة سعــيدة
.
10 مارس 2008