في سياق تأجيج الخلافات بين الأخوة في الجنوب لإخراج القضية الجنوبية عن مسارها، تزايدت في الآونة الأخيرة الكتابات عن مأساة 13 يناير، والتذكير بملفات الماضي، ولكن المطبخ الإعلامي الذي يقف خلف هذه الكتابات، ويسعى لفتح الملفات المغلقة، يغفل حقيقة ليست في صالحه، وهي، أن الخاسر الأكبر من فتح ملفات الماضي هو الحزب الحاكم حاليا.
وأفضل توصيف لما يجري من فتح لتلك الملفات هو ما أورده الزميل الصحفي نبيل الصوفي في مقاله الأخير بنيوز يمن حيث قال: " لقد تصرف المؤتمر الشعبي العام في أحيان كثيرة بإقصائية غريبة، وذكر بالقتل والقتلى، ونبش الصولبان، ويبحث حاليا عن "تفاريش"، ويتحدث عن دموية النخبة السياسية في الجنوب وكأن الشمال كان جنة سلام لم يعرف محمد خميس ولم يختفي فيه سلطان القرشي، ولا قتل فيه مئات من محمد الرعيني وحتى جارالله عمر...."
ولكن الزميل نبيل رعاه الله يحاول بهدوئه المعتاد الابتعاد عن محاذير إغضاب الرئيس شخصيا، ولذلك تجاهل الملف الذي لا يمكن تجاهله، وهو ملف قد يؤرق الرئيس الحالي، لأن الملف يحوي في طياته تفاصيل أخطر وأبشع جرائم الغدر والتصفية في تاريخ اليمن، وهي الجريمة التي أودت بحياة الرئيس الشمالي الأسبق إبراهيم محمد الحمدي، مؤسس مشروع اليمن الحديث، المشروع الذي تم اجهاظه في مهده، ومثلت جريمة اغتياله الغادرة احباطا لمستقبل اليمن وغدرا بكل أبناء الوطن، من أقصاه إلى أقصاه، ومازلنا ندفع ثمنا باهظا للجريمة حتى يومنا هذا في الشمال والجنوب.
وزيادة على ما أشار إليه الزميل النبيل نبيل فيمكن القول إن محاولة إحياء قصة الغشمي وقاتله" تفاريش"، هي محاولة لإحياء قاتل الحمدي ونسيان الفقيد المغدور، وأخيه، وحلم اليمن الضائع. ففي موضوع لافت للإنتباه، نشرت صحيفة 26 سبتمبر الخميس الماضي وثيقة قالت إنها وصية مهدي أحمد صالح المعروف بلقب " تفاريش" وهو لقب مستقى من اللغة الروسية بمعنى " رفيق". وقد نفذ الرفيق مهدي أول عملية انتحارية عرفتها المنطقة العربية قتل خلالها الرئيس الشمالي السابق أحمد حسين الغشمي عام 1978، وذلك عن طريق تفجير حقيبة ملغومة حملها الانتحاري مهدي تفاريش إلى مكتب الغشمي في القيادة العامة للقوات المسلحة. ولم تتضمن الوثيقة معلومات جديدة، بل جاءت تكرارا لما حواه شريط مقابلة أجراها الراحل صالح مصلح قاسم مع الانتحاري تفاريش قبل إرساله إلى صنعاء وتم تسريب الشريط لأشخاص معدودين في سنوات لاحقة. غير أن تسريب الوثيقة جاء في وقت يتم فيه تشجيع الرفيق لحسون نجل الرفيق صالح مصلح على نبذ التصالح والتسامح في محاولة لتحريضه على قوى أخرى، بالتزامن مع تحميل والده في الوقت نفسه المسؤولية المباشرة في قتل أحمد الغشمي ليظل الثأر متواصلا ومتداخلا، في الشمال والجنوب، كي يعتاش منه الحاكم الدائم واللجنة الداعمة. ورغم أن ما قام به الراحل صالح مصلح ومهدي تفاريش كان يعتبر عملا بطوليا بمقاييس تلك الفترة خصوصا أن قطاعا كبيرا من أفراد الشعب اليمني كان يتحرق توقا للثأر من قتلة الحمدي، لكن تحميل الرئيس الجنوبي الراحل سالمين مسؤولية التخلص من الغشمي بتلك الطريقة البشعة، كان خطأ تاريخيا كبيرا ارتكبته إذاعة صنعاء، إذ أن الخطة لم تسغرق سوى عشر ساعات من لحظة اعدادها حتى ساعة تنفيذها، ولم يبلغ بها الشهيد سالمين، بل استغلت للإطاحة به. وحسب مصادر عاصرت تلك الفترة المؤلمة من تاريخ اليمن، فإن أربعة أشخاص فقط كانوا يعلمون بالخطة ثلاثة منهم قتلوا في 78 و86 والرابع مازال حيا يرزق وربما يعلن روايته. أحد هؤلاء الأربعة هو فرحان الخليدي القيادي في جهاز أمن الدولة الذي اتصل بالغشمي مقلدا صوت سالمين قائلا له إنه سيرسل له مبعوثا صباح اليوم التالي لإيصال بعض الوثائق إليه وقد قتل فرحان في أحداث 86م، والثاني هو صالح مصلح الرأس المدبر للإطاحة بالغشمي، والثالث هو المبعوث نفسه مهدي تفاريش، أما الرابع فقد كان في موقع قيادي يؤهله للإطلاع على الخطة ويعرف أسرار كل ما جرى.
وبغض النظر عن صحة ما ورد من محتويات الوصية فإن نشر الوصية في صحيفة الجيش أهم من وصية تفاريش نفسها. ويبدو أن صاحب قرار النشر يعمل ضد الرئيس علي عبدالله صالح من داخل الجيش لأن نشر الوثيقة فتح بابا مغلقا لمناقشة الاغتيالات السياسية في اليمن، وهو ما لا يصب في مصلحة الحاكمين حاليا لأنهم في نظر الشعب اليمني متهمون بالمشاركة في وليمة الغدر بالشهيد الحمدي ومازالوا في نظر الشعب، منذ أكثر من ثلاثين عاما يأكلون من تلك الوليمة ويشربون من دم الشهيد، ودماء الذين قتلوهم بعده، دون وازع من ضمير.
ورغم أن القتلة يتعاملون مع حادث الغدر كأنه سر لا يعرفه إلا المشاركين فيه، ولا يتحمل مسؤوليته سوى الغشمي وحده، إلا أن الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه عرف منذ اللحظة الأولى ما جرى بل وتداول الشارع اليمني أسماء المشاركين في وليمة الغدر التي تمت بدعوة من رئيس الأركان أحمد الغشمي للرئيس الحمدي تكريما لعبدالعزيز عبدالغني، وفي رواية أخرى على شرف الشهيد عبدالسلام مقبل.
وكان الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر قد وضع النقاط على الحروف بببساطته وصراحته المعهودة عندما سألته قناة الجزيرة في أحد برامجها من قتل الحمدي، فقال قتله أحمد الغشمي، فسألته القناة ومن قتل الغشمي فقال قتله جماعة عبدالفتاح اسماعيل، ثم واصل قائلا: وقد جاءني الرائد علي عبدلله صالح إلى بيتي ليعبر عن رغبته بتولي الرئاسة ولو أسبوعا واحدا من أجل الإنتقام للغشمي. هذه الإفادة المسجلة جعلت علي عبدالله صالح وأحمد الغشمي في خانة واحدة، وكانت علاقتهما الحميمية معروفة منذ رحلاتهما القديمة إلى أسمرة، ومازل علي عبدالله صالح ينتقم للغشمي من الجنوبيين حتى اليوم.
وبحكم العلاقة الوثيقة بين الغشمي وعلي عبدالله صالح فإن الأخير من القلائل الذين مازالوا على قيد الحياة ممن يعرفون بلا شك من غدر بالحمدي، وليس من المستبعد أن يأتي اليوم الذي يسأل فيه القضاء اليمني علي عبدالله صالح عن مكان وجودة ساعة وقوع الحادث؟ ولماذا انتقل من تعز إلى صنعاء قبل الحادث بيوم واحد؟ وما دوره في إحضار عبدالله الحمدي إلى مأدبة الغداء؟ وغيرها من الأسئلة التي يعرف إجابتها الشعب اليمني، لأن ملف الحمدي واضح لدرجة الغموض، وغامض لدرجة الوضوح، وينبغي على الرئيس الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها قبل أن يتساءل عما حدث في 13 يناير.
وهناك آخرن مازالت شهادتهم مطلوبة للتاريخ، من بينهم، عبدالعزيز عبدالغني، ومحمد الجنيد، ومحمد الحاوري، ومحسن اليوسفي، كما أن الرائد عبدالله عبدالعالم كان من المدعوين للوليمة نفسها للتخلص منه، ولكنه لم يلق مصير الشهيد الحمدي بسبب عدم تلبيته للدعوة. وبعد الحمدي جرى اخفاء علي قناف زهرة قائد اللواء السابع مدرع، كما جرى إعدام عيسى محمد سيف وعبدالسلام مقبل ومحسن فلاح. وقتلة هؤلاء هم أنفسهم الذين قتلوا عبدالحبيب سالم مقبل وعبدلعزيز السقاف وعبدالله سعد، ويحيى المتوكل وجارالله عمر وعشرات آخرين، وبذلك تم احباط المشروع التحديثي لليمن، وتحققت نبوءة الحمدي التي تحدث فيها عن المستفيدين من قتله قبل أن ينفذوا جريمتهم.
ففي آخر خطاب له قبل اسبوعين من استشهاده في أكتوبر 1977 قال الحمدي بمناسبة الذكرى الـ15 لثورة سبتمبر :
" لست ايها الاخوة اليوم منتهزاً للمناسبة لاتحدث مزايدة عن الديمقراطية يعلم الله ان الديمقراطية والعدل يجريان في دمي ، ولكنني أتحدث عنهما وأقول لكم ان من قد يتظاهرون بالتمسك بهما لو اتيحت لهم فرصة الوصول الى السلطة لذبحوهما من الوريد الى الوريد..."
وتنبأ في خطابه من أن هدف هؤلاء من الديمقراطية هو أن تجرى " انتخابات صورية لا يستطيع المواطن عن طريقها ان يعطي صوته وهو واثق من انه اعطاه لمن يمثله فعلا ويعبر عنه صدقاً .... "
ودعا الحمدي في خطابه إلى " مؤتمر شعبي عام يلتقي فيه الشعب بالقيادة الحكومية ويقررون الاسلوب او الطريق الذي يعبرون عليه للوصول الى الديمقراطية الحقة حتى يتاتى الاعداد السليم للانتخابات الحرة المباشرة الصحيحة".
ومثلما تنبأ الحمدي، بالضبط، فقد أفرغ الذين جاؤوا من بعده الديمقراطية من محتواها، وذبحوها من الوريد إلى الوريد، وأغتالوا مشروع المؤتمر الشعبي العام الذي خطط له الحمدي محولين المؤتمر إلى مكتب لشؤون القبائل، ومؤسسة للكسب السريع. ولهذا فنحن اليوم بأمس الحاجة لفتح ملف تغييب الحمدي، وسنرى أن المستفيدين من غيابة يتحكمون في رقابنا ويهزءون من عقولنا، ومازالوا مصرين على الإيغال في جرائمهم، ويبحثون عن ضحايا آخرين، من أبناء اليمن في الداخل والخارج، فمتى سيتم إيقافهم عند حدهم؟ و متى يعيد الشعب اليمني للحمدي اعتباره؟